محمد الحنبلي : قصة الثبات على الدين و الشهادة على درب القسّاميين
عدد القراءات: 5046

 

رجالٌ من حديد ... لم يبكوا لوهج المعارك و لم يهزّهم أنين الجراح و لم يبالوا بنزيف الدماء و هدير السلاح ، عشقوا الليل و حصاد الرصاص ، و بقيت دماؤهم على وشاح الوطن تاجاً صانعه حماس ، فيا وطني .. هاك دمي فخذه شذى يعبق في رباك ، و يا وطني هاك دمي .. فخذه ناراً تحرِق الباغين إن وطئوا حماك ، و يا وطني هاك دمي .. فخذه و لا تسافر قبل أنْ أراك .

 

هذا هو لسان حال الشهيد محمد الحنبلي غاية التفاني و عنوان الزهد و قمّة العطاء ، أبى إلا أنْ يترجّل في القمة دون أنْ يغادر الأرض إلاّ إلى السماء ، و هذا هو محمد الحنبلي الذي عرفته جبل النار و ما حولها و الفتى كان يحمِل في هويّته كلمة شهيد و إنْ لم يبصرها الناس ، كلّ أفعاله كانت تدلّ كأقواله على صدق طلبه و حبّه و عشقه للشهادة فأصابته بعد أنْ أصابها مراتٍ و مرات .

 

وُلِد الشهيد محمد عبد الرحيم الحنبلي في العام 1975 لأسرةٍ متديّنة معروفة في نابلس ، فوالده أحد شخصيات المدينة المعروفين و رئيس لجنة الزكاة فيها .. التحق محمد منذ نعومة أظفاره بالمساجد ، يتزوّد من ينبوع الإيمان خير الزاد لرحلة الجهاد التي كان يعدّ نفسه لها ، و التحق بصفوف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فترةٍ مبكّرة من حياته كأحد أشبالها المميّزين ، و عرف بورع و تقى و نقاء نفسٍ نازع فيه أهل الجنّة ليكون منهم ، و كان يحمِل نزعةً صوفية شديدة الولع بالرسول الكريم محمد و صحابته الأخيار ، كثير الفعل قليل الكلام ، مقدامٌ همّام حسن المطالعة و التدبّر و الخشوع ، صمته فكْرٌ و نطقه درر ، حتى أحبّه جميع من عايشوه و اختلطوا به .

 

الفارس السابع و العشرين :

كان محمد شديد الذكاء حسن الفراسة وضيء الوجه بسام المحيّى ، اجتاز مراحل دراسته جميعاً بتفوّقٍ و نبوغ رغم انشغالاته الكثيرة و حصل على معدّلٍ أهّله للالتحاق بجامعة النجاح الوطنية ليدرس الهندسة الصناعية في كلية المهندس الشهيد يحيى عياش في العام 1995 ، و ما إن انضمّ محمد إلى أسرة الجامعة حتى كان (دينمو) الكتلة الإسلامية فيها يشرف على عددٍ كبيرٍ من النشاطات و مسؤولاً عن الكثير من المتابعات ، أصبح محمد عضواً في مجلس الطلبة في العام 1997 و أعيد انتخابه في العام 1998 ليكون سكرتيراً لمجلس الطلبة للمرة الثانية و بعد عامٍ انتخب محمد الحنبلي رئيساً للمؤتمر العام لمجلس اتحاد الطلبة الذي كان يرأسه الشهيد قيس عدوان .

 

يقول طلبة النجاح من الذين عايشوا الشهيد محمد الحنبلي : "لم نعرف شخصاً يحمل مزايا محمد و يتمتّع بما يملكه من صفات ، ما زلنا نذكر أيام العمل التي لم يكنْ ينام خلالها إلا بعد إنجاز كافة أعماله ، نذكر له حضوره الدائم و المميّز ، لم يكنْ يتغيّب عن أيّ نشاط ، بل كانت الأفكار الإبداعية للمعارض و المهرجانات كلّها تخرج من تفتق أفكاره و ابتكاراته" .

و من الإنجازات الإبداعية التي سيبقى طلبة النجاح يذكرونها له ابتكاره لأسلوب قاذفة الهاون الاستعراضية و التي عمّمت فيما بعد على جميع المناطق لتستخدم في فعاليات (حماس) و مهرجاناتها قبل أنْ تنقل فكرتها إلى الفصائل الأخرى ، إضافة إلى صنعه المجسّمات المتقنة من دباباتٍ و طائرات و ابتكاره لأساليب تدمّرها كما هو الحال في مجسّم لطائرة (أف 16) قام الحنبلي بتدميره و تفجيره و هو عائم في الهواء وسط ذهول و دهشة آلاف طلبة النجاح خلال المهرجان الخطابيّ .

 

و رغم إنهاء محمد لدراسته في قسم الهندسة الصناعية و حصوله على شهادة البكالوريوس و التحاقه بكلية الدراسات العليا بقي محمد من العاملين الناشطين في الكتلة الإسلامية يقدّم النصح و المشورة و المعونة ، و قد عرف عنه أنّه من أصحاب المواقف الصلبة و من القادة العنيدين الذين لا يقبلون بحلول المفاصلة بل يتشدّدون لتحصيل الحقوق الطلابية أمام الجميع . كلّ ما ذكر عن حياة محمد و مرحلة دراسته في جامعة النجاح لم يكنْ إلا بالنزر اليسير عن حياة هذا الفذّ الذي عاش لدينه و دعوته و فكرته كلّ أيام حياته .

 

أمّا عن تواضع الشهيد محمد فيقول من عرفه إنّه كان رجلاً ذاهباً عن نفسه ، لا يلتفت لمفاتن الدنيا و زخرفها ، و رغم كون ظروفه كانت تسمح له بتوفير كامل مستلزماته إلا أنّه كان قد هاجر إلى الله و رسوله و دينه ، حيث يروي أصدقاؤه المقرّبون منه أنّ والده كان قد قدّم مبلغاً كبيراً من المال لمن ينجح بإقناعه بالاستقرار و الزواج و الالتفات إلى حياته الخاصة ، و كان محمد يضحك لهذا الأمر و يقول لمن يتحدّث إليه عن الموضوع : "ما رأيك أن تبلغ أبي أنّك أقنعتني و تأخذ المال و بعد ذلك الله يفرجها" .

 

لقد عاش محمد للإسلام و استشهد على درب القسام و خاض التجارب تلوَ التجارب ، فبعد عملية عمانوئيل الأولى التي نفّذها الشهيد عاصم ريحان و قتل فيها (11) صهيونياً اعتقلت السلطة الفلسطينية محمداً مع عددٍ من رفاقه في سجونها ، غير أنّه تمكّن من الهرب و الفرار بعد قصف طائرات الـ (أف 16) لمقر السجن ، خرج من سجنه إلى الجامعة التي أحبّ أبناءها و أحبوه فحملوه على الأكتاف و دخلوا حرم الجامعة به محتفلين ، لقد كان اعتقاله لدى السلطة بمثابة حرق أوراقه و إرسال أولى الرسائل حول نشاطه في كتائب الشهيد عز الدين القسام حيث بدأت متابعته من قِبَل القوت الصهيونية ، فتعرّض لمحاولة اغتيالٍ بإطلاق النار عليه ذات مرة من نقطة مقامة في منزل أبو حجلة قرب مفرق تل بينما كان يقف على باب اأحد المنازل في رفيديا فقفز أسفل جدارٍ مجاور و كتبت له النجاة .

 

و مع اجتياح مدينة نابلس و إعادة احتلالها و اقتحام البلدة القديمة فيها للمرة الأولى في شهر نيسان 2002 كان محمد قائد كتائب عز الدين القسام و رجالها المدافعين عنها و هو يقوم بتفخيخ المداخل و زرع العبوات و توزيع المقاتلين و نقل السلاح و الذخيرة حتى أوصل مقاتليه إلى تمام جاهزيتهم قبل الاقتحام ، و كان له دورٌ كبير في صمود البلدة أربعة أيام و كان لتخطيطه البارع و قدراته على المناورة دورٌ أساسيّ في صمود المواقع التي تسيطر عليها الحركة حتى الرمق الأخير و بعد سقوط جميع المواقع الأخرى و هو ما جعل المواطنين في نابلس يقدّمون التحية للقسام و جنده و صمودهم الأسطوريّ ، و بعد الانسحاب الصهيوني من البلدة أصبح الشهيد الحنبلي أسطورة على كلّ لسان ، فقد صار الهدف الدائم لعمليات التوغّل و الاقتحام التي عجزت عن الوصول إليه ، و تمكّن أكثر من مرّةٍ من مغادرة مواقع كان يختبئ داخلها رغم حصارها من قِبَل القوات الصهيونية و داهمت القوات الصهيونية منزله مراتٍ و مرات و اعتقلت والده و أشقاءه و عددٌ كبير من أفراد أسرته كونهم يحملون نفس الاسم حتى جاءت لحظة الانتظار ، و جاء موعد الرحيل عن أرض جبل النار التي بقيَ ينوّر ظلمة ليلها بصلاته و سجوده و جهاده و صبره الطويل .

 

ففي ليلة الجمعة 5/9/2003 حاصرت قوةٌ من الوحدات الخاصة الصهيونية بنايةً من سبع طوابق و استدعت عشرات الجنود و الآليات و الطائرات المروحيّة إلى المكان الذي حاصرته و اشتبكت مع الشهيد محمد الذي رفض الاستسلام ساعاتٍ و ساعات حتى صعدت روحه إلى عنان السماء بعد مقتل جنديّ و إصابة 4 آخرين بجراح .

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب