نابلس والحصار
عدد القراءات: 12181

لا أضيف جديداً بالقول إن حصة نابلس من العدوان الإسرائيلي الذي استهدف الشعب الفلسطيني منذ زيارة شارون الاستفزازية للحرم وحتى الآن، كانت كبيرة جداً وتتناسب مع مكانة نابلس وموقعها في التاريخ الفلسطيني وفي الخارطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية بوصفها قلعة صامدة شامخة، وصاحبة ثقل اقتصادي جعلها تستحق لقب العاصمة الاقتصادية لفلسطين (قبل أن يحولها الاحتلال لعاصمة الفقر والدمار)، وصاحبة دور وطني دفع الاحتلال لوصفها بعاصمة المقاومة وحاضنة المقاومة، وبجعلها عاصمة للفوضى والفلتان. وكان لنابلس ولا يزال دور ثقافي وحضاري جعلها دائماً درة ونجمة تتلألأ في السماء الفلسطينية.

الشاهد الحي على استهداف الاحتلال المركز لنابلس تحديداً يظهر في أن الحصار المشدد لا يزال مفروضاً على المدينة، والاقتحامات والاعتقالات وإقامة الحواجز الثابتة والطيارة والاغتيالات، لم تنقطع لا في مدينة نابلس ولا في عموم المحافظة. ولكننا يجب ألا نلقي بكامل المسؤولية على الاحتلال وجعله شماعة نعلق عليها كل أخطائنا وقصورنا وفسادنا. فالاحتلال لا يكون احتلالاً إذا لم يدمر ويخرب. الأمر الأسوأ ما نقوم به نحن وهو خيار هذا الواقع الذي تعيشه محافظة نابلس أدى الى مبادرة من قبل مجموعة من الشخصيات والمؤسسات والقوى الوطنية لتنظيم سلسلة من النشاطات والفعاليات كان أبرزها توقيع عريضة تدعو لفك الحصار عن نابلس وقّعها أكثر من ثمانية آلاف شخص، وكان آخر النشاطات عقد المؤتمر الوطني لكسر الحصار عن محافظة نابلس وذلك يوم الثلاثاء الماضي في مدرج الشهيد ظافر المصري في جامعة النجاح الوطنية. المفارقة التي حدثت في يوم انعقاد المؤتمر، وأثارت بعض السخرية المرّة فـ "شر البلية ما يضحك" هي ان سلطات الاحتلال أزالت الحاجز المقام على طريق وادي الباذان في خطوة فسرها أحد المشاركين في المؤتمر، ساخراً، بأنها ترجع الى عقد المؤتمر. واضاف ساخراً: كيف ستصبح الحال إذا شكلت الهيئة الوطنية العليا لفك الحصار؟. ورغم الاحباط المشروع الظاهر في هذه السخرية والنابع من الاجتماعات والندوات والمؤتمرات والبيانات والعرائض التي لا تؤدي الى أي شيء (في أغلب الأحيان) إلا أنه لا توجد طريق أخرى للخلاص الوطني سوى تنظيم الجهود الوطنية في سلسلة من المعارك الصغيرة والكبيرة، على المدى المباشر والمتوسط والبعيد، الرامية الى انهاء الاحتلال بوصف هذا الهدف هو الناظم الرئيسي لكافة الأهداف الوطنية. وإذا كنا غير قادرين على انهاء الاحتلال بضربة واحدة خاطفة، وعبر عملية عسكرية فلا طريق أمامنا سوى تعزيز عوامل الوجود والصمود والعمل المنظم واحراز الانجازات الصغيرة المتراكمة التي تؤدي في نهاية الأمر الى تحقيق الحرية والاستقلال، فالتراكم مثل السحر يؤدي الى تحقيق ما يبدو الآن أشبه بالمستحيلات. وذلك شريطة ان يكون العمل دائماً ومنظماً وضمن رؤية واضحة وأهداف محددة، وليس موسمياً ولا يتوقف دون تحقيق الأهداف الموضوعة الممكنة التحقيق أو تحقيق الأهداف الأهم.

فقد أقرّ المؤتمر الوطني لفك الحصار عن محافظة نابلس سلسلة من التوصيات التي رفعتها اللجنة التحضيرية أو التي قدمت اثناء المؤتمر، وهي تبدأ بالدعوة إلى عقد ورشة دراسية لتشخيص الآثار الاقتصادية الضارة الناجمة عن الحصار على نابلس، ومعالجة النتائج المأساوية للحصار على الصعيد الإنساني والمتمثلة بزيادة نسب الفقر والبطالة وانهيار المؤسسات الاقتصادية عن طريق اقامة صندوق اقتصادي خاص لإقراض المؤسسات التجارية التي تشغل أيدي عاملة وتخفيض رسوم المياه والكهرباء ورسوم الترخيص والتأمين واعادة النظر في السياسة الضريبية.

ودعت توصيات المؤتمر الى تشجيع الاستثمار في محافظة نابلس واستيعاب وزارة العمل والمؤسسات المحلية لعدد أكبر من الأيدي العاملة ومكافحة الحصار البيئي الذي يفرضه الاحتلال من خلال إقامة مكب النفايات قرب المدينة. ودعت التوصيات الى استكمال حملة التعبئة الشعبية والوطنية لكسر الحصار أو التحضير لمسيرة جماهيرية كبرى ضد الحصار بمشاركة نشطاء سلام اسرائيليين وأجانب وأعضاء الكنيست العرب، وتشكيل وفد للقاء الرئيس أبو مازن ورئيس الوزراء أحمد قريع لوضعهما في صورة الأوضاع في المحافظة ودعوة مجلس الوزراء الى الاجتماع في نابلس للتعبير عن التضامن معها، ودعت التوصية الى سلسلة من النشاطات الإعلامية والجماهيرية والاجتماعات.

ودعت التوصيات السلطة الوطنية الفلسطينية بكافة أجهزتها ووزاراتها الى تحمل مسؤولياتها تجاه محافظة نابلس واتخاذ خطوات عملية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحسين الأوضاع المعيشية فيها.

ودعا المؤتمر الى تشكيل هيئة وطنية عليا تتولى مسؤولية القيام بالحملات والفعاليات الهادفة الى كسر الحصار عن المدينة.

والمؤتمر حتى الآن مجرد مؤتمر آخر، ولن يشيل "الزير من البير"، وستتوقف أهميته على قدرته على إثارة تحرك دائم ومنظم. ويمكن تقديم الملاحظات التالية على هامش المؤتمر، يمكن أن يساهم الأخذ بها في زيادة القدرة على تحقيق الهدف المرجو وهو ازالة الحصار المفروض على نابلس.

أولاً: علينا أن نضع مهمة فك الحصار عن نابلس في إطارها الوطني الصحيح والشامل، باعتبارها جزءاً من المعركة الشاملة التي يخوضها الشعب الفلسطيني لإزالة الاحتلال. ومع أن هذا لا يتناقض مع أهمية التركيز على هذه المهمة ولكن وضعها كمهمة خارج سياق النضال الوطني العام ضار للغاية.

وحتى يستقيم الأمر يجب على السلطة أن توقف حالة تجزئة القضايا المطروحة مع الجانب الاسرائيلي عن بعضها البعض، بحيث أصبحنا أمام قضايا انتقالية وقضايا نهائية، وأمام خارطة الطريق، وتفاهمات شرم الشيخ. وأمام ما قبل وما بعد 28/9/2000. وأصبح الانسحاب على مراحل ما قبل 28/9 وما بعدها. والانسحاب من مناطق أصبح انسحاباً من مدن، والانسحاب من المدن أصبح انسحاباً من 5 مدن، والانسحاب من 5 مدن أصبح تفاوضاً على كل مدينة على حدة. وعندما يحدث الانسحاب الموعود مثلما حدث في مدينتي أريحا وطولكرم يتمخض الأمر عن مهزلة كاملة.

يجب وقف هذه المهزلة والتفاوض ضمن مرجعية واحدة وواضحة وبصورة لا تفصل القضايا بعضها عن بعض فالانسحاب يجب أن يكون شاملاً لكل الأرض المحتلة (وحتى للمواقع التي كانت ترابط عليها القوات الاسرائيلية قبل 28/9/2000) ولكن شرط أن يشمل الانسحاب كل المناطق والمدن. فاستثناء مناطق ومدن مثل نابلس والخليل وجنين له أثر سياسي ومعنوي ووطني ضار جداً. فالاتفاق على الانسحاب الكلي أم التفاوض فهو على جدولة الانسحاب ومواعيده.

ثانياً: مهمة بحجم فك الحصار عن نابلس لا تعني مجموعة من الشخصيات والمؤسسات فقط وإنما مفترض أنها تعني الجميع. وهذا يستدعي مشاركة كافة الفعاليات والمؤسسات والفصائل، حتى يصبح التحرك عاماً ووطنياً و قادراً على تحقيق أهدافه. والقاء التهم جزافاً لا يفيد، فمن لم يشارك يتحمل المسؤولية إذا تمت دعوته أم لم تتم. ومن لم يهتم بدعوة الآخرين للمشاركة يتحمل قسطه من المسؤولية. الأهم معالجة الأمر عبر انخراط الجميع لانجاح هذا التحرك الوطني.

ثالثاً: لا يمكن لمعظم توصيات المؤتمر الوطني بفك الحصار عن محافظة نابلس أن تتحقق دون معالجة ملف الفوضى والفلتان الأمني معالجة جذرية وسريعة وحازمة. فكيف سيتم تشجيع الاستثمار خلف فرص عمل جديدة والحد من هجرة أصحاب الكفاءة والخبرة ورجال الأعمال والمؤسسات الكبرى إذا استمر الوضع الأمني في نابلس على حاله، ففك الحصار عن نابلس يترابط مع الضرب بيد من حديد على حالة الفوضى والفلتان الأمني. ويمكن على هذا الأساس فهم مبررات بعض الآراء التي قدمت في المؤتمر والتي أعطت الأولوية لمعالجة الوضع الداخلي على التصدي للاحتلال. فما دام هناك حريق داخل البيت فإن مهمة اطفائه تقع على أي شيء آخر مهما كان مهماً.

رابعاً: لا يمكن فك الحصار عن نابلس ولا توفير الأمن والأمان فيها دون تعزيز المؤسسات الوطنية القائمة ودون دعم صمود أهل نابلس، وهذا يتطلب جملة من المهمات أهمها اجراء الانتخابات البلدية، والالتزام بموعد اجراء الانتخابات التشريعية. فدون مؤسسات شرعية ومنتخبة وقوية وتعددية لا يمكن التقدم حقاً على طريق تحقيق الأهداف الوطنية.

وأخيراً، أكرر النداء الذي أطلقه المؤتمر للحكومة لعقد اجتماع لها في نابلس، ليس لأهميته الرمزية فقط، وانما ليكون مناسبة لوضع القرار السابق بإعلان نابلس منطقة منكوبة على طريق التطبيق، وذلك باتخاذ اجراءات فورية وعاجلة. وهذا هدف ممكن، فنابلس تدق جدران الخزان، وستبقى تدق حتى تتم تلبية ندائها. فهي ستبقى على العهد مهما طال الزمن وغلت التضحيات. وبينما تدق لن تكتفي بدعوة الآخرين لنصرتها بل ستقوم بنصرة نفسها أولاً.

 

* كاتب ومحلل سياسي فلسطيني يقيم في رام الله.

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب