عيد سعيد...!
عدد القراءات: 11585

بقلم: علاء أبو ضهير

 

من العام الى العام، إعتدت على العمل المتواصل دون توقف، ووصلت الليل بالنهار، لم أسترح طيلة الاشهر الماضية مؤجلا الراحة الى اليوم الذي يأتي قبل العيد مباشرة، وهو اليوم الذي يستمتع فيه المواطنون بشراء الملابس الجديدة او شراء ما يحتاجون إليه من متطلبات العيد وهداياه وأضحياته، لكنني كنت قد اعتدت، ومنذ سنوات، على الاستمتاع بالتجول في الاسواق في هذا اليوم بالاضافة الى لقاء صديقي الدائم الذي اعتاد هذه العادة معي، وقد أعجبتت بهذا اليوم نظراَ لانني اتمكن من خلاله من لقاء عشرات الاصدقاء والمعارف الذين لا تسمح ظروف عملي وعملهم على لقاء بعضنا بعضاَ أثناء ايام العمل طيلة العام، فلا بأس بتبادل التحيات والسلامات وربما نتبادل بعض الذكريات ان امكن في ظروف لقائنا العشوائي في شوارع المدينة المكتظة ليلة العيد.

 

ويرافق هذا اليوم زيارة الى طبيب الاسنان وغيره من الاطباء لاجراء فحص سنوي عام اعتدت على اجرائه، ويتخلل هذا اليوم تناول بعض الحلويات النابلسية الشهيرة وشراء قائمة ضخمة من الاحتياجات التي لم استطع شراءها طيلة العام نظراً للانشغال اليومي والمتواصل وعلى مدى ايام الاسبوع.

 

كان لهذا اليوم في هذ العام مذاق آخر، طعم لن انساه ما حييت، وأرجو ان اتمكن من نسيانه علنى استطيع استعادة صحتي النفسية والطبيعية، وحتى اتخلص من حالة الخوف والقلق الشديدين الذين يرافقاني في كل همسة من همساتي وكل نفس اتنفسه، هذا القلق الوجودي الميتافيزيقي الذي يلاحقني كلما وضعت رأسي على وسادتي آملاً ان انام دون ان يزعجني شيء حتى الاحلام.

 

وبعيداً عن الاحلام التي اعتادت عليها الكائنات الحية، إعتدت كباقي سكان مدينتي الحزينة على الكوابيس التي لا بد منها طالما بقي هؤلاء الغزاة جاثمين على صدورنا وطالما بقيت دباباتهم متغطرسة تجوب شوارع مدينتي التي اصبحت مدينة اشباح في ليلة العيد.

 

أذكر ليلة العيد عندما كنت صغيراً، كنت اعمل في احد المحلات التجارية في البلدة القديمة من مدينة نابلس، كانت الاسواق تكتظ بالرواد والمتسوقين حتى ساعات فجر العيد، كانت تلك الايام من أجمل واهم الايام التي ينتظرها كل مواطن في مدينتنا التي اعتادت على اعداد الحلويات التقليدية في ساعات الليل، واذكر كيف كنا نحملها على الصواني (الطبلية) على رؤوسنا ونذهب بها الى الفرن التقليدي القديم، ونبقى ننتظر دورنا الذي قد يستغرق بضعة ساعات، بينما تنتشر رائحة الحلويات التقليدية (المعمول) على باب الفرن، بينما يسيراحد الصبية بطبليته مسرعاً الى المنزل لايصال الشحنة الاولى من المعمول، لتقوم الامهات بوضع السكر الناعم عليه بسرعه، وكم كنا نستمتع بتناول هذا المعمول دون السكر الناعم بينما تتصاعد ابخرة الحرار منه ممتزجة برائحة الشواء اللذيذ التي اقترنت بافراح العيد والعاب العيد، والمقصود بالعيد هنا هو ذلك المكان الذي كان متواجداً في شرق البلدة القديمة حيث ُتنصب المراجيح وينتشرالباعة المتجولون الذين ينادون بأعلى اصواتهم لبيع البلالين والمخللات والسكاكر والتسالي اضافة الى اصحاب المراجيح الذين كانو يغنون اغانيهم التقليدية للاطفال الذين يرددون الاناشيد من ورائهم ويلهون ويلعبون ويستمتعون بركوب الدويخة او الدويرة او المرجوحة العالية التي كان يفتخر الاطفال اصحاب السن المتقدمة بمقدرتهم على ركوبها والاسراع بها بينما كنا ننظر اليهم بحسد وغيظ متمنين ان نكبر باسرع وقت ممكن حتى لا يسخرو منا حين نطلب من اصحاب هذه الارجوحة ان يعطونا شوطاً مدفوع الاجر بينما كان يعتذرون منا نظراً لصغر سننأً، ولن انسى الهامش المتاح للاطفال الراغبين بركوب الحمير والخيول احيانا، وكم سعدنا باستئجار الدراجات الهوائية وتسابقنا على الدراجة الاجمل والاسرع حتى نستطيع قطع المسافة من شرق المدينة الى شارع رفيديا والعودة منه في نصف ساعة.

 

واعود مسرعاً من الذكريات الى ألم الحاضر، الى هذا العيد في عام 2005، هذا العام الذي يجرني سريعاً الى تذكر العام الشهير 1948، ذلك العام الذي شهد ترحيل وتشريد مليون مواطن فلسطيني من منازلهم، وما اشبه اليوم بالبارحة، لم يتغير الكثير سوى ارقام السنوات والزمان والمكان. فبينما كنت متوجهاً من منزلي للاستمتاع بهذا اليوم الذي يسبق عيد الاضحى لارى الاصدقاء وازور الاطباء، فوجئت بدمار شديد في أحد الابنية القريبة من الحي الذي اسكنه، علماً انني لم استطع النوم تلك الليلة، فقد دأبت دوريات الاحتلال ودباباته على التنغيص على مواطنينا في هذه الليلة، ولم نتمكن من النوم في هذه الليلة المشؤومة، سمعنا اصوات الانفجارات والقذائف ولكننا لم نتوقع ان يكون حجم الدمار بالشكل الذي رايته في الصباح.

 

شاهدت مبنىً مكوناً من ثلاثة طوابق وقد تراكم على الارض في ثانية واحدة، ما بذلت عمرك في بنائه يستطيع جنود الاحتلال تدميره في ثانية واحدة، هذه هي المقولة الاكثر تطابقاً مع ما حدث ليلة أمس، جاء الجنود بعرباتهم العسكرية الكثيرة لمطاردة احد مقاتلي الحرية الذي مرّ من ذلك الشارع، ثم هرب من قبضتهم، ونظراً لعدم سعادتهم بالقبض عليه، قام جنود الاحتلال بإبلاغ سكان مبى كبير مكون من عدة شقق سكنية ومحال تجارية وصناعية بضرورة اخلاء منازلهم فوراً، هرع السكان رجالا ونساءً وأطفالاً في ملابسهم الليلية دون أن يأخذو معهم شيئاً من متاعهم او اوراقهم الثبوتية، لم يخطر ببالهم وهم يهرعون الى الشارع ان هذه اللحظات هي الاخيرة في تاريخ علاقتهم بمنازلهم وذكرياتهم، لم يخطر ببال اطفالهم انهم لن يستطيعو بعد اليوم اللعب بالعابهم التي احبوها، ولا التمتع بدفء منازلهم في هذا الشتاء القارص، ولا مشاهدة العاب الكرتون من على شاشات تلفازهم التي تدمرت كليا، ولا حتى الاستنعام بالحصول على حمام بالماء الدافىء بعد ان اصبحت حماماتهم ومنازلهم انقاضاَ حملتها الجرافات الى غير رجعة، حملتها بكل ما في هذا الركام من اسمنت وكتب وادوات مطبخ ووثائق شخصية والبومات للصور العائلية القديمة والحديثة وحتى اوراق المذكرات التي لا بد ان احدهم كان قد تسلى بكتابتها.

 

هكذا ودون اي وازع او رادع انساني، أمر الغزاة السكان بالتوجه الى الشارع، بينما قام بعض الجنود بتفجير المبنى عن بكرة ابيه، كان أحدهم قد خبأ سيارته الجميلة والحديثة في احد كراجات المبنى ليحميها من اعتداءات المحتلين، ولا ادري ما هو شعوره حين شاهدها مندثرة تحت انقاض المبنى، تدافع الاطفال واصحاب المنازل المدمرة ليبحثو عن قطعة من ملابسهم، او شيئاً من ذكرياتهم، بينما وقفت النساء من اصحاب هذه المنازل تنظرن بحسرة الى ما كان منزلهم، الى المكان الذي كانت كل منهن تستمع فيه بحياتها وخصوصياتها، تم تجميع السكان في المنازل المجاورة بشكل اشبه بما كان الوضع عليه في عام 1948، وتدافع بعض الجيران وسكان المدينة لتقديم المساعدة والعون، كان أحد اصحاب المنازل المدمرة يقوم بإزاحة الكتل الخرسانية بيده رغم ثقلها، كان مصراً على الاسراع في ازالة الانقاض، لم يحتمل الانتظار حتى تتمكن جرافات البلدية من الوصول الى موقعه، ربما كان متسرعاً للبحث عن هويته الشخصيته او جواز سفره، او ربما كان يبحث عن سندات اعتماد مالية، او شكات بنكية، او البوم صوره العائلية.

 

ولمعت في ذاكرتي فكرة شراء الماسح الضوئي الذي قمت بشرائه مع بدء احداث الانتفاضة الحالية قبل اربعة اعوام، حيث قمت بمسح جميع صور العائلة منذ عام 1948 وحتى الآن، كما حفظتها على شبكة الانترنت خوفاً من يوم تصبح فيه الذكريات امرأً ممنوعاً بقرار من جنود الاحتلال المتحضرين والعاملين في اكثر الدول ديمقراطية في الشرق الاوسط، سرت قليلاً في الحي المنكوب لارى مكتبة بلدية نابلس، وتذكرت على الفور مخاوفي من تعرض هذه المكتبة بموروثها التاريخي والثقافي الكبير للدمار على ايدي طغاة العصر، ولكنني تذكرت اننا نسير على الصراط المستقيم حين تذكرت اننا قمنا بحفظ اهم الوثائق الصحفية لهذه المكتبة منذ عام 1925. يا إلهي كم يحتاج هذه الشعب الى جهود الكترونية لحفظ تاريخة ووثائقة وذكرياته من همجية المحتل.

 

صعدت بصحبة زملائي من المتطوعين الى احد المباني المجاوره، حيث يسكن أحد الاصدقاء القدامى وامه وجدته، وحدثتني والدته عن الرعب والارهاب الذي عاشته ليلة الامس، كما وصفت لي الخوف الشديد الذي عانته والدتها العاجزة الطاعنة في السن وهي تسمع صراخ جنود الاحتلال الاسرائيلي الذين امروها بالنزول الى الشارع، قمنا بمساعدة صديقي في ابعاد ما تبقى من عفش المنزل عن الغرف المجاورة للنوافذ، او حيث كانت النوافذ قبل تدميرها من شدة الانفجار، كان المطر غزيراً وقد بدأ بالتسلل الى المنزل.

 

صعدت بعدها الى منزل الفتيات الكفيفات اللواتي لم يكترث بهن جنود الاحتلال، وقد فوجئت هؤلاء الفتيات الكفيفات بالانفجار وتطاير شظايا الزجاج على اسرتهم مما اثار رعبهن وخوفهن بينما كن يعددن انفسهن لصيام يوم الوقفة التي تلي عيد الاضحى المبارك.

 

اكملت تجوالي وزملائي لندخل نادياً رياضياً شبابياً وهو من أقدم الاندية الرياضية في المدينة، ويعود تاريخ تأسيسه الى الخمسينات من القرن الماضي، شاهدت الجدران المنتفخة من شدة الانفجار، وشاهدت تداعي هذه الواجهات وخطورة انهيارها في اي لحظة، وتذكرت في تلك اللحظة المعاناة التي يعانيها هذا النادي سواء في تمويل نشاطاته او في شراء المعدات الرياضية للشباب الفلسطيني الملتحق في هذا النادي الذي يوفر مكاناً جيداً للشبان الفلسطينيين، حيث اعتاد عشرات الشبان على تفريغ طاقاتهم الانفعالية الناجمة عن الكبت والقمع الاحتلالي من خلال الرياضة، ُترى اين سيذهب هؤلاء الشبان الآن! وأين سيقضي هؤلاء الشبان اوقات فراغهم! ولماذا يصر الاحتلال على زجهم في المعركة بعد ان اختاروا اسلوباً رياضياً لتفريغ طاقاتهم الانفعالية علماً انهم قد ُحرمو من الخروج من مدينتهم منذ اكثر من اربعة سنوات.

 

خرجت من النادي ممزقاً من ضعفي، وخرجت مدمراً من عجزي عن حل مشكلتهم، كانت عيون هؤلاء الشبان الابرياء متعلقة بي، كانو ينظرون الي بنهم شديد، لقد إعتقدوا انني قد احمل لهم الامل بإعادة ترميم وصيانة ناديهم الرياضي الذي احبوا.

 

واكملنا طريقنا لندخل منزل احدى العائلات التي تضررت بفعل الانفجار، لم تكن هذه العائلة من العائلات التي سكنت المبنى الذي قام جنود الاحتلال الاسرائيلي بتدميره غضباً لعدم دقة المعلومات التي حصلو عليها بوجود احد مقاتلي الحرية فيه، دخلنا منزل هذه العائلة المكونة من ثلاثة اشقاء وزوجاتهن واطفالهن، وعلمنا ان عدد سكان هذا المنزل المتداعي للسقوط هو التسعة عشر ساكنا، معظمهم من الاطفال، كان المطر ينهمر علينا بغزارة ونحن داخل المنزل وذلك بسبب تشقق سقف المنزل حيث اصبح الفرق منعدماً بين البقاء في الشارع او في المنزل، حاولت تغطية احد اجهزة التلفاز ببطانية لا زالت جافة، كان سكان المنزل في حيرة من أمرهم، لم يستوعب اي منهم حجم الماساة، ولم يصدقو ان منزلهم لم يعد منزلاً بعد الآن، وانما مكان لا يصلح للحياة الآدمية، كانت الحجارة الكبيرة قد تطايرت من السقف والجدران على كافة ارجاء المنزل، وقد كان محتماً وفاة معظم سكان المنزل لو بقو داخله اثناء التفجير الذي تم في المبنى المجاور.

 

لم أدر ما قيمة زيارتي لهذه الاسرة، تساءلت عن اهمية وجودي في هذه المدينة، وما قيمة ان اذهب الى السوق للاستمتاع بالتسوق، او قيمة زيارة الاصدقاء، او حتى مراجعة الاطباء الذين قمت بتأجيل زيارتي اليهم اشهراً طويلة، ولكنني تذكرت انني لا يحق لي ان اعتبر نفسي مواطنا في هذه المدينة طالما بقيت متفرجا على بؤسها وحزنها، يجب عليّ التحرر من هذه المشاعر الداخلية بالعجز والضعف، يجب القيام بأي عمل يحررني من الضعف والحزن والبكاء على الاطلال، لم ُتجد الدموع التي سكبت على اطلال المنزل، بل يجب القيام بعمل ما، شمرت عن ساعدي، وقلت لزملائي هيا ايها الاصدقاء، سنقضي يومنا في مساعدة هذه الاسرة على اخراج عفش منزلها من تحت الدمار وترحيله الى غرفة اكثر أمناً، يجب علينا انقاذ ملابس العائلات الثلاث التي ستصبح عائلات مشردة منذ هذه اللحظة، ولكننا نستطيع ان نشاركهم الألم، فوحده الالم جديربالحب، ووحده الالم يصهرنا معاً في بوتقة من الاسى والمعاناة والمشاركة الانسانية، وبدأنا بالعمل، كنا ثمانية متطوعين فقط، ولكن شعورنا بضرورة عمل شيء ما كان شعوراً كبيراً، تذكرت في تلك اللحظات كيف هاجر اجدادنا وآباؤنا من منازلهم في مدن يافا وحيفا وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية التي احتلت عام 1948، تذكرت ذلك بينما كنت اقوم وزملائي بحزم الامتعة في البطانيات على شكل صرة فلاحية قديمة، كنا في عجلة من أمرنا، كان يتوجب علينا ان نجمع اكبر كمية ممكنة من الملابس حتى يستطيع السكان أخذها معهم للملجأ الذي سيذهبون اليه، ُترى اين ستقضي هذه العائلات ليلة العيد؟ وكيف سيعيش هؤلاء الاطفال عيدهم!، كنت اقوم بوضع حذائي الجديد وملابسي الجديدة قرب السرير في ليلة الوقفة ايام طفولتي حتى البسها بسرعة مع بدء تسابيح الصلاة في صباح يوم العيد، أين سيضع هؤلاء الاطفال المشردون أحذيتهم الجديدة (ان وجدت)! اصبحت هذه الاسئلة سخيفة في ظرف تتغير فيه الاولويات، إذ اصبحت اولوياتنا هي البحث عن مكان ما لايواء هذه العائلات، لا يهم ان كان هذه المكان مخزناً او دكاناً اوحتى مدخل بناية او قبوٍ تحت الارض، المهم ان نخرجهم من تحت المطر والانقاض.

 

وانتهى يومنا في التطوع من أجل جعل حياة هذه العائلات اقل بؤساً، ولا شك انهم قد شعرو بالدف حي شاهدو من يشاركهم الالم والبؤس، ولكن الى متى سنستطيع الصمود في ظل هذه الظروف اللاانسانية! انه اسلوب للتهجير المنظم والهادىء، كم تخوفت اليوم من ان نصبح هنوداً حمراً في الوطن، ولكنني تذكرت في نفس الوقت صوت ذلك الطفل الذي سمعته وانا في طريقي الى العمل صباح يوم كئيب حمل في ليله الكثير من الدمار الاسرائيلي لحياتنا ومبانينا، لقد صرخ هذا الطفل في إذاعة المدرسة الصباحية قائلاً: فلسطين حرة عربية، عندها تأكدت وتيقنت ان هذا الشعب لا ُيهزم. وأن شعباً ُجبل اطفاله على القهر والحرمان والتشرد والبرد والقمع لا ولن ينسى.

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

محمد نجار، سوريا
الموضوع قيّم وذات طابع انساني وخاصة فيما يتعلق بالأطفال
تصميم وتطوير: ماسترويب